من فوائد النوم وأسراره
قال – تعالى -: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ: 9 - 11].
وكان من تدبير الله للبشر أنْ جعل النوم سباتًا، يدركهم فيقطعهم عن الإدراك والنشاط، ويجعلهم في حالةٍ لا هي موت، ولا هي حياة، تتكفل بإراحة أجسادهم وأعصابهم، وتعويضها عن الجهد الذي بذلتْه في حالة الصحو والإجهاد والانشغال بأمور الحياة، وكلُّ هذا يتم بطريقة عجيبة لا يدرك الإنسان كنهها، ولا نصيب لإرادته فيها، ولا يمكن أن يعرف كيف تتم في كيانه؛ فهو في حالة الصحو لا يعرف كيف يكون، وهو في حالة النوم لا يدرك هذه الحالة، ولا يقدر على ملاحظتها، وهي سر من أسرار تكوين الحي، لا يعلمه إلا مَن خَلَقَ هذا الحيَّ، وأودعه ذلك السرَّ، وجعل حياته متوقفةً عليه، فما من حيٍّ يطيق أن يظل من غير نوم إلا فترة محدودة، فإذا أجبر إجبارًا بوسائلَ خارجةٍ عن ذاته كي يظل مستيقظًا، فإنه يَهلِكُ قطعًا.
وفي النوم أسرارٌ غير تلبية حاجة الجسد والأعصاب، إنه هدنة الروح من صراع الحياة العنيف، هدنة تلم بالفرد فيلقي سلاحه وجُنَّتَه - طائعًا أو غير طائع - ويستسلم لفترة من السلام الآمن، السلام الذي يحتاجه الفردُ حاجتَه إلى الطعام والشراب، ويقع ما يشبه المعجزات في بعض الحالات، حيث يلم النعاس بالأجفان، والروحُ مثقل، والأعصابُ مكدودة، والنفسُ منزعجة، والقلبُ مروع، وكأنما هذا النعاس - وأحيانًا لا يزيد على لحظات - انقلابٌ تام في كيان هذا الفرد، وتجديد كامل لا لقواه؛ بل له هو ذاته، وكأنما هو كائن حي يصحو من جديد، ولقد وقعت هذه المعجزة بشكل واضح للمسلمين المجهودين في غزوة بدر وفي غزوة أُحد، وامتنَّ الله عليهم بها وهو يقول: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} [الأنفال: 11]، {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} [آل عمران: 154]، كما وقعت للكثيرين في حالات مشابهة.
فهذا السبات - أي: الانقطاع عن الإدراك والنشاط بالنوم - ضرورةٌ من ضرورات تكوين الحي، وسرٌّ من أسرار القدرة الخالقة، نعمة من نِعَمِ الله، لا يملك إعطاءها إلا هو.
وتوجيه النظر إليها على هذا النحو القرآني ينبِّه القلبَ إلى خصائص ذاته، وإلى اليد التي أودعتها كيانه، ويلمسه لمسة تُثير التأملَ والتدبُّر والتأثر.
وكان من تدبير الله كذلك أنْ جعل حركة الكون موافقةً لحركة الأحياء، وكما أودع الإنسان سر النوم والسبات، بعد العمل والنشاط، فكذلك أودع الكون ظاهرةَ الليل؛ ليكون لباسًا ساترًا يتم فيه السبات والانزواء، وظاهرةَ النهار؛ ليكون معاشًا تتم فيه الحركة والنشاط، بهذا توافق خلق الله وتناسق، وكان هذا العالم بيئة مناسبة للأحياء، تلبي ما ركّب فيهم من خصائص، وكان الأحياء مزودين بالتركيب المتفق في حركته وحاجاته مع ما هو مودع في الكون من خصائص وموافقات، وخرج هذا وهذا من يد القدرة المبدعة، متسقًا أدق اتِّساق[1].
رابط الموضوع:
http://www.alukah.net/sharia/0/9210/#ixzz2vvKBirFk